فصل: باب أَحَبِّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَا يُدْعَى النَّاسُ بِآبَائِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يدعى الناس بآبائهم‏)‏ كذا للأكثر، وذكره ابن بطال بلفظ ‏"‏ هل يدعي الناس ‏"‏ زاد في أوله هل، وقد ورد في ذلك حديث لأم الدرداء سأنبه عليه في ‏"‏ باب تحويل الاسم ‏"‏ واستغنى المصنف عنه لما لم يكن على شرطه بحديث الباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في الغادر يرفع له لواء لقوله فيه ‏"‏ غدرة فلان ابن فلان ‏"‏ فتضمن الحديث أنه ينسب إلى أبيه في الموقف الأعظم‏.‏

وقع في رواية الكشميهني في الرواية الأولى ‏"‏ ينصب ‏"‏ بدل ‏"‏ يرفع ‏"‏ قال الكرماني‏:‏ الرفع والنصب هنا بمعنى واحد، يعني لأن الغرض إظهار ذلك‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ في هذا الحديث رد لقول من زعم أنهم لا يدعون يوم القيامة إلا بأمهاتهم سترا على آبائهم‏.‏

قلت‏:‏ هو حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس وسنده ضعيف جدا‏.‏

وأخرج ابن عدي من حديث أنس مثله وقال‏:‏ منكر‏.‏

أورده في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الطبري‏.‏

قال ابن بطال‏.‏

والدعاء بالآباء أشد في التعريف وأبلغ في التمييز‏.‏

وفي الحديث جواز الحكم بظواهر الأمور‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يقتضي حمل الآباء على من كان ينسب إليه في الدنيا لا على ما هو في نفس الأمر وهو المعتمد، وينظر كلامه من شرحه‏.‏

وقال ابن أبي جمرة‏:‏ والغدر على عمومه في الجليل والحقير‏.‏

وفيه أن لصاحب كل ذنب من الذنوب التي يريد الله إظهارها علامة يعرف بها صاحبها، ويؤيده قوله تعالى ‏(‏يعرف المجرمون بسيماهم‏)‏ قال‏:‏ وظاهر الحديث أن لكل غدرة لواء، فعلى هذا يكون للشخص الواحد عدة ألوية بعدد غدراته‏.‏

قال‏:‏ والحكمة في نصب اللواء أن العقوبة تقع غالبا بضد الذنب، فلما كان الغدر من الأمور الخفية ناسب أن تكون عقوبته بالشهرة، ونصب اللواء أشهر الأشياء عند العرب‏.‏

*3*باب لَا يَقُلْ خَبُثَتْ نَفْسِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا يقل خبثت نفسي‏)‏ بفتح الخاء المعجمة وضم الموحدة بعدها مثلثة ثم مثناة، ويقال بفتح الموحدة والضم أصوب‏.‏

قال الراغب‏:‏ الخبث يطلق على الباطل في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح في الفعال‏.‏

قلت‏:‏ وعلى الحرام والصفات المذمومة القولية والفعلية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي

الشرح‏:‏

حديث عائشة بلفظ ‏"‏ لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لقست نفسي‏"‏‏.‏

قال الخطابي تبعا لأبي عبيد‏:‏ لقست وخبثت بمعنى واحد‏.‏

وإنما كره صلى الله عليه وسلم من ذلك اسم الخبث فاختار اللفظة السالمة من ذلك، وكان من سنته تبديل الاسم القبيح بالحسن‏.‏

وقال غيره‏.‏

معنى لقست غثت بغين معجمة ثم مثلثة، وهو يرجع أيضا إلى معنى خبيث، وقيل معناه ساء خلقها، وقيل مالت به إلى الدعة‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ هو على معنى الأدب وليس على سبيل الإيجاب‏.‏

وقد تقدم في الصلاة في الذي يعقد الشيطان على قافية رأسه فيصبح خبيث النفس‏.‏

ونطق القرآن بهذه اللفظة فقال تعالى ‏(‏ومثل كلمة خبيثة‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ لكن لم يرد ذلك إلا في معرض الذم، فلا ينافي ذلك ما دل عليه حديث الباب من كراهة وصف الإنسان نفسه بذلك‏.‏

وقد سبق لهذا عياض فقال‏:‏ الفرق أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن صفة شخص مذموم الحال فلم يمتنع إطلاق ذلك اللفظ عليه‏.‏

وقال ابن أبي جمرة‏:‏ النهي عن ذلك للندب، والأمر بقوله ‏"‏ لقست ‏"‏ للندب أيضا، فإن عبر بما يؤدي معناه كفى، ولكن ترك الأولى‏.‏

قال‏:‏ ويؤخذ من الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة والأسماء، والعدول إلى ما لا قبح فيه، والخبث واللقس وإن كان المعنى المراد يتأدى بكل منهما لكن لفظ الخبث قبيح ويجمع أمورا زائدة على المراد، بخلاف اللقس فإنه يختص بامتلاء المعدة‏.‏

قال وفيه أن المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن، ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما، ويدفع الشر عن نفسه مهما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة‏.‏

قال‏:‏ ويلتحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله لا يقول لست بطيب بل يقول ضعيف، ولا يخرج نفسه من الطيبين فيلحقها بالخبيثين‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أخرج أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ حديث سهل من طريق شبيب بن سعيد عن يونس بن يزيد عن الزهري ثم قال‏:‏ أخرجه البخاري عن عبدان عن ابن المبارك عن موسى‏.‏

وقال‏:‏ هو موسى بن عقبة، والصحيح يونس‏.‏

قلت‏:‏ لم أقف عليه في الأصول المعتمدة من رواية أبي ذر إلا عن يونس وكذا في رواية النسفي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي تَابَعَهُ عُقَيْلٌ

الشرح‏:‏

حديث سهل بن حنيف‏.‏

قال الخطابي تبعا لأبي عبيد‏:‏ لقست وخبثت بمعنى واحد‏.‏

وإنما كره صلى الله عليه وسلم من ذلك اسم الخبث فاختار اللفظة السالمة من ذلك، وكان من سنته تبديل الاسم القبيح بالحسن‏.‏

وقال غيره‏.‏

معنى لقست غثت بغين معجمة ثم مثلثة، وهو يرجع أيضا إلى معنى خبيث، وقيل معناه ساء خلقها، وقيل مالت به إلى الدعة‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ هو على معنى الأدب وليس على سبيل الإيجاب‏.‏

وقد تقدم في الصلاة في الذي يعقد الشيطان على قافية رأسه فيصبح خبيث النفس‏.‏

ونطق القرآن بهذه اللفظة فقال تعالى ‏(‏ومثل كلمة خبيثة‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ لكن لم يرد ذلك إلا في معرض الذم، فلا ينافي ذلك ما دل عليه حديث الباب من كراهة وصف الإنسان نفسه بذلك‏.‏

وقد سبق لهذا عياض فقال‏:‏ الفرق أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن صفة شخص مذموم الحال فلم يمتنع إطلاق ذلك اللفظ عليه‏.‏

وقال ابن أبي جمرة‏:‏ النهي عن ذلك للندب، والأمر بقوله ‏"‏ لقست ‏"‏ للندب أيضا، فإن عبر بما يؤدي معناه كفى، ولكن ترك الأولى‏.‏

قال‏:‏ ويؤخذ من الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة والأسماء، والعدول إلى ما لا قبح فيه، والخبث واللقس وإن كان المعنى المراد يتأدى بكل منهما لكن لفظ الخبث قبيح ويجمع أمورا زائدة على المراد، بخلاف اللقس فإنه يختص بامتلاء المعدة‏.‏

قال وفيه أن المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن، ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما، ويدفع الشر عن نفسه مهما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة‏.‏

قال‏:‏ ويلتحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله لا يقول لست بطيب بل يقول ضعيف، ولا يخرج نفسه من الطيبين فيلحقها بالخبيثين‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أخرج أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ حديث سهل من طريق شبيب بن سعيد عن يونس بن يزيد عن الزهري ثم قال‏:‏ أخرجه البخاري عن عبدان عن ابن المبارك عن موسى‏.‏

وقال‏:‏ هو موسى بن عقبة، والصحيح يونس‏.‏

قلت‏:‏ لم أقف عليه في الأصول المعتمدة من رواية أبي ذر إلا عن يونس وكذا في رواية النسفي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه عقيل‏)‏ يعني عن الزهري بسنده المذكور والمتن، وهذه المتابعة وصلها الطبراني من طريق نافع بن يزيد عن عقيل وسقطت من رواية أبي ذر، وثبتت للنسفي والباقين‏.‏

*3*باب لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا تسبوا الدهر‏)‏ هذا اللفظ أخرجه مسلم من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة فذكره، وبعده ‏"‏ فإن الله هو الدهر‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏الليث عن يونس عن ابن شهاب‏)‏ قال أبو علي الجياني هكذا للجميع إلا لأبي علي بن السكن فقال فيه ‏"‏ الليث عن عقيل عن ابن شهاب ‏"‏ وهكذا وقع في ‏"‏ الزهريات للذهلي ‏"‏ من روايته عن أبي صالح عن الليث، ولكن لفظه ‏"‏ لا يسب ابن آدم الدهر ‏"‏ قال أبو علي الجياني الحديث محفوظ ليونس عن ابن شهاب أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عنه‏.‏

قلت الحديث عند الليث عن شيخين، وقد أخرجه يعقوب بن سفيان وأبو نعيم من طريقه قال ‏"‏ حدثنا أبو صالح وابن بكير قالا حدثنا الليث حدثني يونس به‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال الله يسب بنو آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار‏)‏ هذه رواية يونس بن يزيد عن الزهري، ورواية معمر بعدها بلفظ ‏"‏ ولا تقولوا يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر ‏"‏ وأوله ‏"‏ لا تسموا العنب الكرم ‏"‏ ويأتي شرحه في الباب الذي بعده، وقد اختلف على معمر فيه شيخ الزهري فقال عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن معمر عنه عن أبي سلمة‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ولفظه ‏"‏ قال الله يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر ‏"‏ الحديث أخرجه مسلم، وهكذا قال سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد أخرجه أحمد عنه ولفظه ‏"‏ يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ‏"‏ وقد مضى في التفسير من هذا الوجه، وسيأتي في التوحيد، وهكذا أخرجه مسلم وغيره من رواية سفيان بن عيينة‏.‏

قال ابن عبد البر الحديثان للزهري عن أبي سلمة وعن سعيد بن المسيب جميعا صحيحان قلت قال النسائي كلاهما محفوظ، لكن حديث أبي سلمة أشهرهما، قلت ولعبد الرزاق فيه عن معمر إسناد آخر أخرجه مسلم أيضا من طريقه فقال ‏"‏ عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ‏"‏ بلفظ ‏"‏ لا يسب أحدكم الدهر، فإن الله هو الدهر؛ ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم ‏"‏ الحديث، وأخرجه أحمد من رواية همام عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر، إني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما ‏"‏ وأخرجه مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا يقولن أحدكم ‏"‏ والباقي مثل رواية الأعلى عن معمر، لكن وقع في رواية يحيى بن يحيى الليثي عن مالك في آخره ‏"‏ فإن الدهر هو الله ‏"‏ قال ابن عبد البر خالف جميع الرواة عن مالك، وجميع رواة الحديث مطلقا، فإن الجميع قالوا ‏"‏ فإن الله هو الدهر ‏"‏ وأخرجه أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا تسبوا الدهر فإن الله قال‏:‏ أنا الدهر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك ‏"‏ وسنده صحيح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ وَلَا تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تقولوا خيبة الدهر‏)‏ كذا للأكثر، وللنسفي ‏"‏ يا خيبة الدهر ‏"‏ وفي البخاري ‏"‏ واخيبة الدهر ‏"‏ الخيبة بفتح الخاء المعجمة وإسكان التحتانية بعدها موحدة الحرمان، وهي بالنصب على الندبة، كأنه فقد الدهر لما يصدر عنه مما يكرهه فندبه متفجعا عليه أو متوجعا منه‏.‏

وقال الداودي‏:‏ هو دعاء على الدهر بالخيبة وهو كقولهم قحط الله نوءها يدعون على الأرض بالقحط، وهي كلمة هذا أصلها ثم صارت تقال لكل مذموم‏.‏

ووقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ ‏"‏ وادهره وادهره ‏"‏ ومعنى النهي عن سب الدهر أن من اعتقد أنه الفاعل للمكروه فسبه أخطأ فإن الله هو الفاعل، فإذا سببتم من أنزل ذلك بكم رجع السب إلى الله‏.‏

وقد تقدم شرح الحديث في تفسير سورة الجاثية‏.‏

ومحصل ما قيل في تأويله ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها أن المراد بقوله ‏"‏ أن الله هو الدهر ‏"‏ أي المدبر للأمور‏.‏

ثانيها أنه على حذف مضاف أي صاحب الدهر‏.‏

ثالثها التقدير مقلب الدهر، ولذلك عقبه بقوله ‏"‏ بيدي الليل والنهار ‏"‏ ووقع في رواية زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ بيدي الليل والنهار أجدده وأبليه وأذهب بالملوك ‏"‏ أخرجه أحمد‏.‏

وقال المحققون‏:‏ من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكنه يكره له ذلك لشبهه بأهل الكفر في الإطلاق، وهو نحو التفصيل الماضي في قولهم‏:‏ مطرنا بكذا‏.‏

وقال عياض‏:‏ زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا أو فعله لما قبل الموت، وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم ولا شيء عندهم ولا صانع سواه، وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث ‏"‏ أنا الدهر أقلب ليله ونهاره ‏"‏ فكيف يقلب الشيء نفسه‏؟‏ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ لا يخفى أن من سب الصنعة فقد سب صانعها، فمن سب نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير معنى، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث حيث نفى عنهما التأثير، فكأنه قال‏:‏ لا ذنب لهما في ذلك، وأما الحوادث فمنها ما يجري بوساطة العاقل المكلف فهذا يضاف شرعا ولغة إلى الذي جرى على يديه، ويضاف إلى الله تعالى لكونه بتقديره، فأفعال العباد من أكسابهم، ولهذا ترتبت عليها الأحكام، وهي في الابتداء خلق الله‏.‏

ومنها ما يجري يغير وساطة فهو منسوب إلى قدرة القادر، وليس لليل والنهار فعل ولا تأثير لا لغة ولا عقلا ولا شرعا، وهو المعني في هذا الحديث‏.‏

ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير العاقل‏.‏

ثم أشار بأن النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الأدنى، وأن فيه إشارة إلى ترك سب كل شيء مطلقا إلا ما أذن الشرع فيه، لأن العلة واحدة، والله أعلم انتهى ملخصا‏.‏

واستنبط منه أيضا منع الحيلة في البيوع كالعينة لأنه نهى عن سب الدهر لما يؤول إليه من حيث المعنى وجعله سبا لخالقه‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ

وَقَدْ قَالَ إِنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ إِنَّمَا الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ كَقَوْلِهِ لَا مُلْكَ إِلَّا لِلَّهِ فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ الْمُلْكِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُلُوكَ أَيْضاً فَقَالَ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما الكرم قلب المؤمن، وقد قال‏:‏ إنما المفلس الذي يفلس يوم القيامة كقوله‏:‏ إنما الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب، كقوله‏:‏ لا ملك إلا الله فوصفه بانتهاء الملك‏.‏

ثم ذكر الملوك أيضا فقال‏:‏ إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها‏)‏ غرض البخاري أن الحصر ليس على ظاهره، وإنما المعنى أن الأحق باسم الكرم قلب المؤمن، ولم يرد أن غيره لا يسمى كرما، كما أن المراد بقوله ‏"‏ إنما المفلس من ذكر ‏"‏ ولم يرد أن من يفلس في الدنيا لا يسمى مفلسا، وبقوله ‏"‏ إنما الصرعة ‏"‏ كذلك، وكذا قوله ‏"‏ لا ملك إلا الله ‏"‏ لم يرد أنه لا يجوز أن يسمى غيره ملكا، وإنما أراد الملك الحقيقي وإن سمي غيره ملكا، واستشهد لذلك بقوله تعالى ‏(‏إن الملوك‏)‏ وفي القرآن من ذلك عدة أمثلة كقوله تعالى ‏(‏وقال الملك‏)‏ في صاحب يوسف وغيره، وأشار ابن بطال إلى أنه يؤخذ من ذلك ترك المبالغة والإغراق في الوصف إذا كان الموصوف لا يستحق ذلك، وحديث ‏"‏ إنما المفلس ‏"‏ يأتي الكلام عليه في الرقاق، وحديث ‏"‏ إنما الصرعة ‏"‏ تقدم قريبا، وحديث ‏"‏ لا ملك إلا الله ‏"‏ يأتي الكلام عليه في ‏"‏ باب أبغض الأسماء إلى الله ‏"‏ ووقع لبعض الرواة هنا بلفظ ‏"‏ لا ملك إلا لله ‏"‏ بضم الميم وسكون اللام وحذف الألف بعد قوله إلا، والأول هو اللائق للسياق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ الْكَرْمُ إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقولون الكرم إنما الكرم قلب المؤمن‏)‏ هكذا وقع في هذه الرواية من طريق سفيان بن عيينة قال حدثنا الزهري عن سعيد، ووقع في الباب الذي قبله من رواية معمر عن الزهري عن أبي سلمة بلفظ ‏"‏ لا تسموا العنب كرما ‏"‏ وهي رواية ابن سيرين عن أبي هريرة عند مسلم، وعنده من طريق همام عن أبي هريرة ‏"‏ لا يقل أحدكم للعنب الكرم، إنما الكرم الرجل المسلم ‏"‏ وله من حديث وائل بن حجر ‏"‏ لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا العنب والحبلة ‏"‏ قالوا وفي قوله في الباب ‏"‏ ويقولون ‏"‏ عاطفة على شيء حذف هنا وكأنه الحديث الذي قبله، وقد أخرجه ابن أبي عمر في مسنده عن سفيان ومن طريقه الإسماعيلي فقال في أوله ‏"‏ يقولون ‏"‏ بغير واو أخرجه الحميدي في مسنده ومن طريقه أبو نعيم وذكره بالواو كما ذكره البخاري عن علي بن عبد الله، وكذا أخرجه أحمد في مسنده عن سفيان ولكن قال فيه ‏"‏ عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ وقال مرة ‏"‏ يبلغ به ‏"‏ وقال مرة ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأخرجه مسلم عن ابن أبي عمر وعمرو الناقد قالا حدثنا سفيان بهذا السند قال ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تقولوا كرم فإن الكرم قلب المؤمن ‏"‏ وقوله ‏"‏ ويقولون الكرم ‏"‏ هو مبتدأ وخبره محذوف أي يقولون الكرم شجر العنب‏.‏

وقد أخرج الطبراني والبزار من حديث سمرة رفعه ‏"‏ إن اسم الرجل المؤمن في الكتب الكرم من أجل ما أكرمه الله على الخليقة، وإنكم تدعون الحائط من العنب الكرمد ‏"‏ الحديث قال الخطابي ما ملخصه‏:‏ إن المراد بالنهي تأكيد تحريم الخمر بمحو اسمها، ولأن في تبقية هذا الاسم لها تقريرا لما كانوا يتوهمونه من تكرم شاربها فنهى عن تسميتها كرما وقال‏:‏ ‏"‏ إنما الكرم قلب المؤمن ‏"‏ لما فيه من نور الإيمان وهدى الإسلام، وحكى ابن بطال عن ابن الأنباري أنهم سموا العنب كرما لأن الخمر المتخذة منه تحث على السخاء وتأمر بمكارم الأخلاق حتى قال شاعرهم‏:‏ والخمر مشتقة المعنى من الكرم وقال آخر‏:‏ شققت من الصبي واشتق مني كما اشتقت من الكرم الكروم فلذلك نهى عن تسمية العنب بالكرم حتى لا يسموا أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم، وجعل المؤمن الذي يتقي شربها ويرى الكرم في تركها أحق بهذا الاسم انتهى‏.‏

وأما قول الأزهري‏:‏ سمي العنب كرما لأنه ذلل لقاطفه وليس فيه سلاء يعقر جانيه ويحمل الأصل منه مثل ما تحمل النخلة فأكثر، وكل شيء كثر فقد كرم، فهو صحيح أيضا من حيث الاشتقاق لكن المعنى الأول أنسب للنهي‏.‏

وقال النووي‏:‏ النهي في هذا الحديث عن تسمية العنب كرما وعن تسمية شجرها أيضا للكراهية‏.‏

وحكى القرطبي عن المازري أن السبب في النهي أنه لما حرمت عليهم الخمر وكانت طباعهم تحثهم على الكرم كره صلى الله عليه وسلم أن يسمى هذا المحرم باسم تهيج طباعهم إليه عند ذكره فيكون ذلك كالمحرك لهم، وتعقبه بأن محل النهي إنما هو تسمية العنب كرما، وليست العنبة محرمة، والخمر لا تسمى عنبة بل العنب قد يسمى خمرا باسم ما يؤول إليه‏.‏

قلت‏:‏ والذي قاله المازري موجه، لأنه يحمل على إرادة حسم المادة بترك تسمية أصل الخمر بهذا الاسم الحسن، ولذلك ورد النهي تارة عن العنب وتارة عن شجرة العنب فيكون التنفير بطريق الفحوى، لأنه إذا نهى عن تسمية ما هو حلال في الحال بالاسم الحسن لما يحصل منه بالقوة مما ينهي عنه فلأن ينهي عن تسمية ما ينهي عنه بالاسم الحسن أحرى‏.‏

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة ما ملخصه‏:‏ لما كان اشتقاق الكرم من الكرم، والأرض الكريمة هي أحسن الأرض فلا يليق أن يعبر بهذه الصفة إلا عن قلب المؤمن الذي هو خير الأشياء لأن المؤمن خير الحيوان، وخير ما فيه قلبه، لأنه إذا صلح صلح الجسد كله، وهو أرض لنبات شجرة الإيمان‏.‏

قال‏:‏ ويؤخذ منه أن كل خير - باللفظ أو المعنى أو بهما أو مشتقا منه أو مسمى به - إنما يضاف بالحقيقة الشرعية‏.‏

لأن الإيمان وأهله وإن أضيف إلى ما عدا ذلك فهو بطريق المجاز، وفي تشبيه الكرم بقلب المؤمن معنى لطيف، لأن أوصاف الشيطان تجري مع الكرمة كما يجري الشيطان في بني آدم مجرى الدم، فإذا غفل المؤمن عن شيطانه أوقعه في المخالفة، كما أن من غفل عن عصير كرمه تخمر فتنجس‏.‏

ويقوي التشبه أيضا أن الخمر يعود خلا من ساعته بنفسه أو بالتخليل فيعود طاهرا، كذا المؤمن يعود من ساعته بالتوبة النصوح طاهرا من خبث الذنوب المتقدمة التي كان متنجسا باتصافه بها إما بباعث من غيره من موعظة ونحوها وهو كالتخليل، أو بباعث من نفسه وهو كالتخلل‏.‏

فينبغي للعاقل أن يتعرض لمعالجة قلبه لئلا يهلك وهو على الصفة المذمومة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ الحبلة المذكورة في حديث وائل عند مسلم بفتح المهملة وحكي ضمها وسكون الموحدة وبفتحها أيضا وهو أشهر‏:‏ هي شجرة العنب، وقيل أصل الشجرة، وقيل القضيب منها‏.‏

وقال في ‏"‏ المحكم ‏"‏ الحبل بفتحتين شجر العنب، الواحدة حبلة، وبالضم ثم السكون الكرم، وقيل الأصل من أصوله، وهو أيضا اسم ثمر السمر والعضاه‏.‏

*3*باب قَوْلِ الرَّجُلِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي

فِيهِ الزُّبَيْرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الرجل فداك أبي وأمي‏)‏ تقدم ضبط فداك ومعناه في ‏"‏ باب ما يجوز من الرجز والشعر ‏"‏ قريبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيه الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ يشير إلى ما وصله في مناقب الزبير بن العوام من طريق عبد الله بن الزبير قال ‏"‏ جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الأحزاب في النساء ‏"‏ الحديث‏.‏

وفيه قول الزبير ‏"‏ فلما رجعت جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه فقال‏:‏ فداك أبي وأمي‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَدِّي أَحَداً غَيْرَ سَعْدٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي أَظُنُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏يحيى‏)‏ هو ابن سعيد القطان وسفيان هو الثوري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يفدي‏)‏ بفتح أوله وسكون الفاء للكشميهني، ولغيره يضم أوله والفاء المفتوحة والتشديد، وقد تقدم في مناقب سعد بن أبي وقاص بيان الجمع بين حديث الزبير المذكور في الباب في إثبات التفدية له وبين حديث علي هذا في نفي ذلك عن غير سند، وكأن البخاري رمز بذلك إلى هذا الجمع، وغفل من خص حديث الزبير بتخريج مسلم مع إخراج البخاري له ورمزه إليه في هذا الباب، وقوله في آخر هذا الحديث ‏"‏ أظنه يوم أحد ‏"‏ تقدم الجزم بذلك في رواية إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه في غزوة أحد من كتاب المغازي ولفظه ‏"‏ فإني سمعته يقول‏:‏ ارم سعد، فداك أبي وأمي ‏"‏ وتقدم هناك سبب هذا القول لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه‏.‏

*3*باب قَوْلِ الرَّجُلِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الرجل جعلني الله فداك‏)‏ أي هل يباح أو يكره‏؟‏ وقد استوعب الأخبار الدالة على الجواز أبو بكر بن أبي عاصم في أول كتابه ‏"‏ آداب الحكماء ‏"‏ وجزم بجواز ذلك فقال‏:‏ للمرء أن يقول ذلك لسلطانه ولكبيره ولذوي العلم ولمن أحب من إخوانه غير محظور عليه ذلك، بل يثاب عليه إذا قصد توقيره واستعطافه، ولو كان ذلك محظورا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم قائل ذلك ولأعلمه أن ذلك غير جائز أن يقال لأحد غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فديناك بآبائنا وأمهاتنا‏)‏ هو طرف من حديث لأبي سعيد رفعه ‏"‏ أن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ فديناك بآبائنا وأمهاتنا ‏"‏ الحديث، وقد تقدم موصولا في مناقب أبي بكر مع شرحه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةُ مُرْدِفُهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَثَرَتْ النَّاقَةُ فَصُرِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَرْأَةُ وَأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ أَحْسِبُ اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ هَلْ أَصَابَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لَا وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْمَرْأَةِ فَأَلْقَى أَبُو طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَصَدَ قَصْدَهَا فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا فَقَامَتْ الْمَرْأَةُ فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِمَا فَرَكِبَا فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ أَوْ قَالَ أَشْرَفُوا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ

الشرح‏:‏

حديث أنس في إرداف صفية قد تقدم شرحه في أواخر كتاب اللباس، والمراد منه قول أبي طلحة ‏"‏ يا نبي الله جعلني الله فداك، هل أصابك شيء ‏"‏‏؟‏ وقد ترجم أبو داود نحو هذه الترجمة وساق حديث أبي ذر ‏"‏ قلت للنبي صلى الله عليه وسلم لبيك وسعديك، جعلني الله فداك ‏"‏ الحديث، وكذا أخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ في الترجمة‏.‏

قال الطبراني‏:‏ في هذه الأحاديث دليل على جواز قول ذلك‏.‏

وأما ما رواه مبارك بن فضالة عن الحسن قال ‏"‏ دخل الزبير على النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاك فقال‏:‏ كيف تجدك جعلني الله فداك‏؟‏ قال‏:‏ ما تركت أعرابيتك بعد ‏"‏ ثم ساقه من هذا الوجه ومن وجه آخر ثم قال‏:‏ لا حجة في ذلك على المنع، لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث في الصحة‏.‏

وعلى تقدير ثبوت ذلك فليس فيه صريح المنع، بل فيه إشارة إلى أنه ترك الأولى في القول للمريض إما بالتأنيس والملاطفة وإما بالدعاء والتوجع‏.‏

فإن قيل‏:‏ إنما ساغ ذلك لأن الذي دعا بذلك كان أبواه مشركين، فالجواب أن قول أبي طلحة كان بعد أن أسلم، وكذا أبو ذر‏.‏

وقول أبي بكر كان بعد أن أسلم أبواه‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

ويمكن أن يعترض بأنه لا يلزم من تسويغ قول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسوغ لغيره، لأن نفسه أعز من أنفس القائلين وآبائهم ولو كانوا أسلموا، فالجواب ما تقدم من كلام ابن أبي عاصم، فإن فيه إشارة إلى أن الأصل عدم الخصوصية‏.‏

وأخرج ابن أبي عاصم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة ‏"‏ فداك أبوك ‏"‏ ومن حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ‏"‏ فداكم أبي وأمي ‏"‏ ومن حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك للأنصار‏.‏

*3*باب أَحَبِّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب أحب الأسماء إلى الله عز وجل‏)‏ ورد بهذا اللفظ حديث أخرجه مسلم من طريق نافع عن ابن عمر ‏"‏ إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ‏"‏ وله شاهد من حديث أبي وهب الجشمي وسيأتي التنبيه عليه بعد باب، وآخر عن مجاهد عند ابن أبي شيبة مثله، قال القرطبي‏:‏ يلتحق بهذين الاسمين ما كان مثلهما كعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الصمد، وإنما كانت أحب إلى الله لأنها تضمنت ما هو وصف واجب لله وما هو وصف للإنسان وواجب له وهو العبودية‏.‏

ثم أضيف العبد إلى الرب إضافة حقيقية فصدقت أفراد هذه الأسماء وشرفت بهذا التركيب فحصلت لها هذه الفضيلة‏.‏

وقال غيره‏:‏ الحكمة في الاقتصار على الاسمين أنه لم يقع في القرآن إضافة عبد إلى اسم من أسماء الله تعالى غيرهما، قال الله تعالى ‏(‏وأنه لما قام عبد الله يدعوه‏)‏ وقال في آية أخرى ‏(‏وعباد الرحمن‏)‏ ويؤيده قوله تعالى ‏(‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏)‏ وقد أخرج الطبراني من حديث أبي زهير الثقفي رفعه ‏"‏ إذا سميتم فعبدوا ‏"‏ ومن حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به ‏"‏ وفي إسناد كل منهما ضعف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ فَقُلْنَا لَا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلَا كَرَامَةَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَمِّ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن جابر ولد لرجل منا غلام‏)‏ اسم الرجل المذكور لم أقف عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسماه القاسم‏)‏ مقتضى رواية مسلم عن رفاعة بن الهيثم عن خالد بالسند المذكور هنا ‏"‏ فسماه محمدا ‏"‏ إلا أنه أورده عقب رواية عبثر وهو بوزن جعفر بعين مهملة ثم موحدة ثم ساكنة ثم مثلثة عن حصين بالسند المذكور فسماه محمدا فذكر الحديث، وفي آخره ‏"‏ سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فإنما بعثت قاسما أقسم بينكم ‏"‏ ثم ساق رواية خالد وقال بهذا الإسناد ولم يذكر ‏"‏ فإنما بعثت قاسما أقسم بينكم ‏"‏ وكأن الاختلاف فيه على خالد، فإن الإسماعيلي أخرجه من رواية وهيب بن بقية عن خالد فقال ‏"‏ فسماه القاسم ‏"‏ وأخرجه أحمد عن هشيم عن حصين فقال ‏"‏ سماه القاسم ‏"‏ وأخرجه أيضا من رواية معمر عن منصور كذلك، وأخرجه أبو نعيم من رواية يوسف القاضي عن مسدد عن خالد فقال ‏"‏ سماه باسم النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هكذا قاله أبو عوانة عن‏:‏ حصين أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج على مسلم ‏"‏ وهذا يقتضي ترجيح رواية رفاعة بن الهيثم، وأخرجه أحمد عن زياد البكائي عن منصور كما قال رفاعة، وقد وقع الاختلاف فيه على شعبة أيضا في ‏"‏ باب قوله تعالى‏:‏ فإن لله خمسه وللرسول ‏"‏ يعني قسم ذلك من كتاب فرض الخمس فأخرجه البخاري هناك عن أبي الوليد عن شعبة عن سليمان وهو الأعمش ومنصور وقتادة قالوا سمعنا سالما أي ابن أبي الجعد عن جابر قال ‏"‏ ولد لرجل منا غلام فأراد أن يسميه محمدا ‏"‏ قال وقال عمر ويعني ابن مرزوق عن شعبة عن قتادة بسنده ‏"‏ أراد أن يسميه القاسم ‏"‏ وأورده من رواية سفيان الثوري عن الأعمش فقال ‏"‏ أراد أن يسميه القاسم ‏"‏ وأخرجه مسلم من رواية جرير عن منصور فقال فيه ‏"‏ ولد لرجل منا غلام فسماه محمدا فقال له قومه‏:‏ لا ندعك تسميه باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق إليه بابنه حامله على ظهره فقال‏:‏ يا رسول الله ولد لي غلام فسميته محمدا ‏"‏ فذكر الحديث، وقد بين شعبة أن في رواية منصور عن سالم عن جابر أن الأنصاري قال ‏"‏ حملته على عنقي ‏"‏ أورده البخاري في فرض الخمس، وقد تقدم أنه يقتضي أن يكون من مسند الأنصاري من رواية جابر عنه، وسائر الروايات عن سالم بن أبي الجعد يقتضي أنه من مسند جابر، وفيه أورده أصحاب المسانيد والأطراف، وقدمت في فرض الخمس أن رواية من قال أراد أن يسميه القاسم أرجح، وذكرت وجه رجحانه‏.‏

ويؤيده أنه لم يختلف على محمد بن المنكدر عن جابر في ذلك كما أخرجه المؤلف في آخر الباب الذي يليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا نكنيك أبا القاسم ولا كرامة‏)‏ في الرواية التي في الباب بعده من هذا الوجه ‏"‏ ولا ننعمك عينا ‏"‏ هو من الإنعام أي لا ننعم عليك بذلك فتقر به عينك، ويؤخذ منه مشروعية تكنية المرء بمن يولد له ولا يختص بأول أولاده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا للأكثر بضم الهمزة على البناء للمجهول، ولبعضهم بالبناء للفاعل، ويؤيده ما في الباب الذي بعده بلفظ ‏"‏ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال سم ابنك عبد الرحمن‏)‏ في مطابقه الترجمة لحديث جابر عسر، وأقرب ما قيل أنهم لما أنكروا عليه التكني بكنية النبي صلى الله عليه وسلم اقتضى مشروعية الكنية، وأنه لما أمره أن يسميه عبد الرحمن اختار له اسما يطيب خاطره به إذ غير الاسم فاقتضى الحال أنه لا يشير عليه إلا باسم حسن، وتوجيه كونه أحسن تقدم في أول الباب، قال بعض شراح ‏"‏ المشارق ‏"‏ لله الأسماء الحسنى، وفيها أصول وفروع أي من حيث الاشتقاق قال‏:‏ وللأصول أصول أي من حيث المعني، فأصول الأصول اسمان الله والرحمن، لأن كلا منهما مشتمل على الأسماء كلها، قال كلها تعالى ‏(‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏)‏ ولذلك لم يتسم بهما أحد‏.‏

وما ورد من رحمن اليمامة غير وارد لأنه مضاف، وقول شاعرهم ‏"‏ وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا ‏"‏ تغالى في الكفر، وليس بوارد، لأن الكلام في أنه لم يتسم به أحد، ولا يرد إطلاق من أطلقه وصفا لأنه لا يستلزم التسمية بذلك، وقد لقب غير واحد الملك الرحيم ولم يقع مثل ذلك في الرحمن، وإذا تقرر ذلك كانت إضافة العبودية إلى كل منهما حقيقة محضة، فظهر وجه الأحبية، والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي

قَالَهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سموا باسمي ولا تكنوا‏)‏ بفتح الكاف وتشديد النون وهو على حذف إحدى التائين أو بسكون الكاف وضم النون‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ ولا تكتنوا ‏"‏ بسكون الكاف وفتح المثناة بعدها نون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بكنيتي‏)‏ في رواية الأصيلي ‏"‏ بكنوتي ‏"‏ بالواو بدل التحتانية وهي بمعناها كنوته وكنيته بمعنى، قال عياض رووه كلهم في عدة مواضع بالياء، وقد تقدم معنى الكنية والتعريف بها في أوائل المناقب في ‏"‏ باب كنية النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيه أنس‏)‏ يشير إلى ما تقدم موصولا في البيوع ثم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق حميد عن، أنس بهذا، وفيه قصة سيأتي التنبيه عليها ولفظه ‏"‏ سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي‏"‏‏.‏

ثم ذكر فيه حديث جابر في ذلك ثم حديث أبي هريرة ثم حديث جابر من وجه آخر فأما حديث أبي هريرة فاقتصر فيه المتن ولفظه كحديث أنس المذكور، وأما حديث جابر ففي الرواية الأولى من طريق سالم وهو ابن أبي الجعد عنه ‏"‏ ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم فقالوا لا نكنيك حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وفي الرواية الثانية من طريق محمد بن المنكدر عنه ‏"‏ فقلنا لا نكنيك بأبي القاسم ولا ننعمك عينا ‏"‏ فيجمع بين هذا الاختلاف إما بأن بعضهم قال هذا وبعضهم قال هذا، وإما أنهم منعوا أولا مطلقا ثم استدركوا فقالوا حتى نسأل‏.‏

وفي الرواية الأولى أيضا ‏"‏ فقال سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ‏"‏ وفي الرواية الثانية ‏"‏ فقال سم ابنك عبد الرحمن ‏"‏ ويجمع بينهما بأن أحد الراويين ذكر ما لم يذكر الآخر‏.‏

وقوله ‏"‏لا نكنيك ‏"‏ بفتح أوله مع التخفيف وبضمه مع التشديد، و ‏"‏ ننعمك ‏"‏ بضم أوله‏.‏

قال النووي‏:‏ اختلف في التكني بأبي القاسم على ثلاثة مذاهب‏:‏ الأول المنع مطلقا سواء كان اسمه محمدا أم لا، ثبت ذلك عن الشافعي‏.‏

والثاني الجواز مطلقا، ويختص النهي بحياته صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثالث لا يجوز لمن اسمه محمد ويجوز لغيره‏.‏

قال الرافعي‏:‏ يشبه أن يكون هذا هو الأصح، لأن الناس لم يزالوا يفعلونه في جميع الأعصار من غير إنكار‏.‏

قال النووي‏:‏ هذا مخالف لظاهر الحديث، وأما إطباق الناس عليه ففيه تقوية للمذهب الثاني، وكأن مستندهم ما وقع في حديث أنس المشار إليه قبل ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان في السوق، فسمع رجلا يقول‏:‏ يا أبا القاسم، فالتفت إليه فقال‏:‏ لم أعنك، فقال‏:‏ سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ‏"‏ قال ففهموا من النهي الاختصاص بحياته للسبب المذكور، وقد زال بعده صلى الله عليه وسلم‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

وهذا السبب ثابت في الصحيح، فما خرج صاحب القول المذكور عن الظاهر إلا بدليل‏.‏

ومما ننبه عليه أن النووي أورد المذهب الثالث مقلوبا فقال‏:‏ يجوز لمن اسمه محمد دون غيره، وهذا لا يعرف به قائل، وإنما هو سبق قلم، وقد حكى المذاهب الثلاثة في ‏"‏ الأذكار ‏"‏ على الصواب، وكذا هي في الرافعي‏.‏

ومما تعقبه السبكي عليه أنه رجح منع التكنية بأبي القاسم مطلقا، ولما ذكر الرافعي في خطبة المنهاج فقال المحرر للإمام أبي القاسم الرافعي، وكان يمكنه أن يقول للإمام الرافعي فقط أو يسميه باسمه ولا يكنيه بالكنية التي يعتقد المصنف منعها‏.‏

وأجيب باحتمال أن يكون أشار بذلك إلى اختيار الرافعي الجواز، أو إلى أنه مشتهر بذلك، ومن شهر بشيء لم يمتنع تعريفه به، ولو كان بغير هذا القصد فإنه لا يسوغ والله أعلم‏.‏

وبالمذهب الأول قال الظاهرية، وبالغ بعضهم فقال‏:‏ لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه القاسم لئلا يكني أبا القاسم‏.‏

وحكى الطبري مذهبا رابعا وهو المنع من التسمية بمحمد مطلقا، وكذا التكني بأبي القاسم مطلقا، ثم ساق من طريق سالم بن أبي الجعد ‏"‏ كتب عمر‏:‏ لا تسموا أحدا باسم نبي ‏"‏ واحتج لصاحب هذا القول بما أخرجه من طريق الحكم بن عطية عن ثابت عن أنس رفعه ‏"‏ يسمونهم محمدا ثم يلعنونهم ‏"‏ وهو حديث أخرجه البزار وأبو يعلي أيضا وسنده لين، قال عياض‏:‏ والأشبه أن عمر إنما فعل ذلك إعظاما لاسم النبي صلى الله عليه وسلم لئلا ينتهك‏.‏

وقد كان سمع رجلا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب‏:‏ يا محمد فعل الله بك وفعل، فدعاه وقال‏:‏ لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك فغير اسمه‏.‏

قلت‏:‏ أخرجه أحمد والطبراني من طريق عبد الرحمن بن ابن أبي ليلى ‏"‏ نظر عمر إلى ابن عبد الحميد وكان اسمه محمدا ورجل يقول له‏:‏ فعل الله بك يا محمد، فأرسل إلى ابن زيد بن الخطاب فقال‏:‏ لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك، فسماه عبد الرحمن‏.‏

وأرسل إلى بني طلحة وهم سبعة ليغير أسماءهم فقال له محمد وهو كبيرهم‏:‏ والله لقد سماني النبي صلى الله عليه وسلم محمدا، فقال‏:‏ قوموا فلا سبيل إليكم ‏"‏ فهذا يدل على رجوعه عن ذلك‏.‏

وحكى غيره مذهبا خامسا وهو المنع مطلقا في حياته والتفصيل بعده بين من اسمه محمد وأحمد فيمتنع وإلا فيجوز وقد ورد ما يؤيد المذهب الثالث الذي ارتضاه الرافعي ووهاه النووي، وذلك فيما أخرجه أحد وأبو داود وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان من طريق أبي الزبير عن جابر رفعه ‏"‏ من تسمي باسمي فلا يكتني بكنيتي، ومن اكتني بكنيتي فلا يتسمى باسمي ‏"‏ لفظ أبي داود وأحمد من طريق هشام الدستوائي عن أبي الزبير، ولفظ الترمذي وابن حبان من طريق حسين بن الواقد عن أبي الزبير ‏"‏ إذا سميتم بي فلا تكنوا بي، وإذا كنيتم بي فلا تسموا بي ‏"‏ قال أبو داود ورواه الثوري عن ابن جريج مثل رواية هشام، ورواه معقل عن أبي الزبير مثل رواية ابن سيرين عن أبي هريرة، قال ورواه محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة مثل رواية أبي الزبير‏.‏

قلت‏:‏ ووصله البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وأبو يعلى ولفظه ‏"‏ لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي ‏"‏ والترمذي من طريق الليث عنه ولفظه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته وقال‏:‏ أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم ‏"‏ قال أبو داود‏:‏ واختلف على عبد الرحمن بن أبي عمرة وعلى أبي زرعة بن عمرو وموسى بن يسار عن أبي هريرة على الوجهين قلت‏:‏ وحديث ابن أبي عمرة أخرجه أحمد وابن أبي شيبة من طريقه عن عمه رفعه ‏"‏ لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي ‏"‏ وأخرج الطبراني من حديث محمد بن فضالة قال ‏"‏ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن أسبوعين، فأتي بي إليه فمسح على رأسي وقال‏:‏ سموه باسمي ولا تكنوه بكنيتي ‏"‏ ورواية أبي زرعة عند أبي يعلى بلفظ ‏"‏ من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي ‏"‏ واحتج للمذهب الثاني بما أخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث علي قال‏:‏ ‏"‏ قلت يا رسول الله إن ولد لي من بعدك ولد أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك‏؟‏ قال نعم ‏"‏ وفي بعض طرقه ‏"‏ فسماني محمدا وكناني أبا القاسم ‏"‏ وكان رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب، روينا هذه الرخصة في ‏"‏ أمالي الجوهري ‏"‏ وأخرجها ابن عساكر في الترجمة النبوية من طريقه وسندها قوي، قال الطبري‏:‏ في إباحة ذلك لعلي ثم تكنية علي ولده أبا القاسم إشارة إلى أن النهي عن ذلك كان على الكراهة لا على التحريم، قال ويؤيد ذلك أنه لو كان على التحريم لأنكره الصحابة ولما مكنوه أن يكني ولده أبا القاسم أصلا، فدل على أنهم إنما فهموا من النهي التنزيه‏.‏

وتعقب بأنه لم ينحصر الأمر فيما قال، فلعلهم علموا الرخصة له دون غيره كما في بعض طرقه، أو فهموا تخصيص النهي بزمانه صلى الله عليه وسلم، وهذا أقوى لأن بعض الصحابة سمى ابنه محمدا وكناه أبا القاسم وهو طلحة بن عبيد الله‏.‏

وقد جزم الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه‏.‏

وأخرج ذلك من طريق عيسى بن طلحة عن ظئر محمد بن طلحة وكذا يقال لكنية كل من المحمدين ابن أبي بكر وابن سعد وابن جعفر بن أبي طالب وابن عبد الرحمن بن عوف وابن حاطب بن أبي بلتعة وابن الأشعث بن قيس أبو القاسم وأن آباءهم كنوهم بذلك، قال عياض‏:‏ وبه قال جمهور السلف والخلف وفقهاء الأمصار، وأما ما أخرجه أبو داود من حديث عائشة ‏"‏ أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول الله إني سميت ابني محمدا وكنيته أبا القاسم فذكر لي أنك تكره ذلك، قال‏:‏ ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي ‏"‏ فقد ذكر الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ أن محمدا بن عمران الحجبي تفرد به عن صفية بنت شيبة عنها، ومحمد المذكور مجهول، وعلى تقدير أن يكون محفوظا فلا دلالة فيه على الجواز مطلقا، لاحتمال أن يكون قبل النهي‏.‏

وفي الجملة أعدل المذاهب المذهب المفصل المحكي أخيرا مع غرابته‏.‏

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بعد أن أشار إلى ترجيح المذهب الثالث من حيث الجواز‏:‏ لكن الأولى الأخذ بالمذهب الأول فإنه أبرأ للذمة وأعظم للحرمة، والله أعلم‏.‏

*3*باب اسْمِ الْحَزْنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب اسم الحزن‏)‏ بفتح المهملة وسكون الزاي‏:‏ ما غلظ من الأرض، وهو ضد السهل، واستعمل في الخلق يقال‏:‏ في فلان حزونة أي في خلقه غلظة وقساوة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَاهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا اسْمُكَ قَالَ حَزْنٌ قَالَ أَنْتَ سَهْلٌ قَالَ لَا أُغَيِّرُ اسْماً سَمَّانِيهِ أَبِي قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَمَا زَالَتْ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمَحْمُودٌ هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِهَذَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن المسيب‏)‏ هو سعيد، وسماه أحمد في روايته عن عبد الرزاق، وكذا محمود بن غيلان وأحمد بن صالح وغيرهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه أن أباه جاء‏)‏ كذا رواه إسحاق بن نصر عن عبد الرزاق، وتابعه أحمد عن عبد الرزاق في روايته ‏"‏ عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجده ‏"‏ وكذا أخرجه ابن حبان من طريق محمد بن أبي السري عن عبد الرزاق، وأورده المصنف عن عقبة عن محمود بن غيلان وعلي بن عبد الله كلاهما عن عبد الرزاق فقالا في روايتهما ‏"‏ عن أبيه عن جده ‏"‏ وكذا أورده أبو داود عن أحمد بن صالح والإسماعيلي من طريق إسحاق بن الضيف كلاهما عن عبد الرزاق وفيه ‏"‏ عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ‏"‏ وهذا الاختلاف على عبد الرزاق وبحسبه يكون الحديث إما من مسند المسيب بن حزن على الرواية الأولى، وإما من مسند حزن بن أبي وهب والده على الرواية الثانية، وقد أعرض الحميدي تبعا لأبي مسعود عن الرواية الثانية وأورد الحديث في مسند المسيب، وأما الكلاباذي فجزم بأن الحديث من مسند حزن، وهذا الذي ينبغي أن يعتمد، لأن الزيادة من الثقة مقبولة ولا سيما وفيهم ابن المديني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أنت سهل‏)‏ في وراية الإسماعيلي من طريق محمود بن غيلان، ومن طريق إسحاق بن الضيف جميعا قال ‏"‏ بل اسمك سهل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا أغير اسما‏)‏ في رواية أحمد بن صالح ‏"‏ فقال‏:‏ لا، السهل يوطأ ويمتهن ‏"‏ ويجمع بأنه قال كلا من الكلامين فنقل بعض الرواة ما لم ينقله الآخر‏.‏

قوله ‏(‏فما زالت الحزونة فينا بعد‏)‏ في رواية أحمد بن صالح ‏(‏فظننت أنه سيصيبنا بعده حزونة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا علي بن عبد الله ومحمود هو ابن غيلان‏)‏ كذا ثبت للأكثر، وسقط محمود من رواية الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني، وقد أخرجه الإسماعيلي عن الهيثم بن خلف عن محمود بن غيلان كما قال البخاري ولفظه كما قدمته، وأخرجه أبو نعيم عن أبي أحمد وهو الغطريفي عن الهيثم فقال في السند ‏"‏ عن أبيه أن أباه جاءه ‏"‏ والمعتمد ما قال الإسماعيلي‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ فيه أن الأمر بتحسين الأسماء وبتغيير الاسم إلى أحسن منه ليس على الوجوب، وسيأتي مزيد لهذا في الباب الذي يليه‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ معنى قول ابن المسيب ‏"‏ فما زالت فينا الحزونة ‏"‏ يريد اتساع التسهيل صلى الله عليه وسلم فيما يريدونه‏.‏

وقال الداودي‏:‏ يريد الصعوبة في أخلاقهم، إلا أن سعيدا أفضى به ذلك إلى الغضب في الله‏.‏

وقال غيره‏:‏ يشير إلى الشدة التي بقيت في أخلاقهم‏.‏

فقد ذكر أهل النسب أن في ولده سوء خلق معروف فيهم لا يكاد يعدم منهم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال الكرماني هنا‏:‏ قالوا لم يرو عن المسيب بن حزن - وهو وأبوه صحابيان - إلا ابنه سعيد بن المسيب، وهذا خلاف المشهور من شرط البخاري أنه لم يرو عن واحد ليس له إلا راو واحد‏.‏

قلت‏:‏ وهذا المشهور راجع إلى غرابته، وذلك أنه لم يذعه إلا الحاكم ومن تلقى كلامه، وأما المحققون فلم يلتزموا ذلك، وحجتهم أن ذلك لم ينقل عن البخاري صريحا، وقد وجد عمله على خلافه في عدة مواضع‏:‏ منها ‏"‏ هذا فلان يعتد به ‏"‏ وقد قررت ذلك في ‏"‏ النكت على علوم الحديث ‏"‏ وعلى تقدير تسليم الشرط المذكور، فالجواب عن هذا الموضع أن الشرط المذكور إنما هو في غير الصحابة، وأما الصحابة فكلهم عدول فلا يقال في واحد منهم بعد أن ثبتت صحبته مجهول، وإن وقع ذلك في كلام بعضهم فهو مرجوح، ويحتاج من ادعى الشرط في بقية المواضع إلى الأجوبة‏.‏